فصل: فصل في بيان حقيقة الدُّعاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}.
قوله تعالى: {أُجِيبُ} فيها وجهان:
أحدهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل {قَريبٌ}.
والثاني: أنها خبرٌ ثانٍ لإنِّي؛ لأنَّ {قَرِيبٌ} خبرٌ أوَّلُ.
ولابد من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء، تقديرُه: فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب، وجاء قوله: {أُجِيبُ}؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر، ولم يُراعَ الخبرُ، فيقالُ: يُجِيبُ بالغَيْبَة؛ مراعاةً لقوله: {قَرِيبٌ}؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ؛ كقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وفي أخرى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47]، وقول الشاعر: الطويل:
وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ** إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ

ولو راعى الخبر، لقال: مَا يَرَوْنَ القَتْلَ.
وفي قوله: {عَنِّي} و{إِنِّي} التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّ قبله: {وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، والكافُ في {سَأَلَكَ} للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يجر له ذكرٌ، إلاَّ أنَّ قوله: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] يَدُلُّ عليه؛ لأنَّ تقديره: أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وفي قوله: {فَإِنِّي قَريبٌ} مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ، لتعاليه عن المَكَان.
قال أبو حَيَّان: والعامِل في {إِذَا} قوله: {أُجِيبُ} يعني {إِذَا} الثانية، فيكون التقديرُ: أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها؛ لدلالةِ {أُجِيبُ} عليه؛ وحينئذٍ لا يكونُ {أُجِيبُ} هذا الملفوظ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفَ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط، وأمَّا {إِذَا} الأولى، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ، والهاء في {دَعْوَة} ليست الدالَّة على المَرَّة، نحو: ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ، نحو: رحمة ونجدة؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة.
والياءان من قوله: {الدَّاع}- {دَعَان} من الزوائد عند القُرَّاءِ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابة لم تُثْبِت لها صورةً في المُصحَف، فمن القُرَّاءِ مَنْ أَسْقَطَها تَبَعًا للرسل وَقْفًا ووَصْلًا.
ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَين، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها وَصْلًا ويحذِفُها وَقْفًا، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستُّون ياءً، فأثبَتَ أبو عمرو وقَالُونُ هاتَينِ الياءَيْنِ وَصْلًا وحَذَفَاهَا وَقْفًا.

.فصل في بيان حقيقة الدُّعاء:

قال أبو سليمان الخطَّابيُّ: والدُّعاء مصدر من قولك: دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً، ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم؛ تقول: سمعتُ الدعاء؛ كما تقولُ: سمعتُ الصَّوتَ، وقد يوضعُ المصدر موضع الاسم؛ كقولك: رَجُلٌ عدلُ، وحقيقةُ الدعاء: استدعاءُ العبدِ ربَّهُ جلَّ جلالهُ العناية، واستمدادُهُ إيَّاه المعونَةَ.
والإجابةُ في اللُّغة: الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ، فالإجابةُ من الله العطاءُ، ومن العبدِ الطاعةُ.
وقال ابنُ الأنبياريِّ {أُجِيبَ} هاهنا بمعنى أَسْمَعُ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ.
قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في الاستفعالِ هنا قولان:
أحدهما: أنَّه للطلب على بابه، والمعنى: فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي، قاله ثعلبٌ.
الطَّاعة والعَمَل، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
والثاني: أنه بمعنى الإفعال، فيكون استفعل وأفعل بمعنى، وقد جاءَت منه ألفاظ، نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ، ومنه اسْتَجَابَةُ وَأَدَابَهُ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ، فقد جاء متعدّيًا بنفسه، وبحرف الجَرِّ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدًّى بحرف الجرِّ نحو: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 84] {فاستجاب لَهُمْ} [آل عمران: 195] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي: الطويل:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

ولقائل أنْ يقُول: يحتملُ هذا البيت: إنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ.
واللامُ لامُ الأمر، وفرَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ: بأنَّ اسْتَجَابَ لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه؛ نحو: {فاستجبنا لَهُ} {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُم}، وأمَّا أَجَابَ فأعمُّ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة، فجعل بينهما عمومًا وخصوصًا.
والجمهورُ على {يَرشُدُونَ} بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه: رَشَدَ بالفتح، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرئ بفتحها، وماضيه رشِد بالكسر، وقرئ: {يُرْشَدُونَ} مبنيًّا للمفعول، وقرئ: {يُرْشِدُونَ} بضم الياء وكسر الشين من أَرْشَدَ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: يُرْشِدُونَ غيرهم والرُّشْدُ هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا؛ قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] وقال: {أولئك هُمُ الراشدون فَضْلًا مِّنَ الله وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7- 8].
قال القرطبي: والرُّشْدُ خلاف الغيِّ، وقد رشد يرشُدُ رُشدًا ورشِدَ- بالكَسْر- يَرْشَدُ رَشَدًا لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد: مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ.
وقال الهرويُّ: الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ: الهدى والاستقامة؛ ومنه قوله تعالى: {يَرْشُدُونَ}.
فإنْ قيل: إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان، فذاك هو الإيمانُ، وعلى هذا، فيكونُ قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} تكرارًا محضًا، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّمًا على الطاعات، وكان حقُ النَّظم أن يقول: فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي فلم جاء على العكس.
فالجواب: أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات. اهـ. باختصار.

.قال السيوطي:

الدعاء ورد على أوجه:
1- العبادة: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك}.
2- والاستعانة: {وادعوا شهداءكم}.
3- والسؤال: {ادعوني أستجب لكم}.
4- القول: {دعواهم فيها سبحانك اللهم}.
5- والنداء: {يوم يدعوكم}.
6- والتسمية: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (187):

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.

.سبب النزول:

قال ابن الجوزى:
سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرما عليه إلى أن يفطر، فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى أهله، فقال: عشوني، فقالوا: حتى نسخن لك طعامًا، فوضع رأسه فنام، فجاءوا بالطعام، فقال: قد كنت نمت، فبات يتقلب ظهرًا لبطن، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأخبره، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتل، فواقعتها، فأخبرتني أنها قد نامت، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} وأنزل الله في الأنصاري: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} هذا قول جماعة من المفسرين. واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال. أحدها: قيس بن صرمة، قاله البراء. والثاني: صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمد، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صرمة بن مالك. والثالث: ضمرة بن أنس. والرابع: أبو قيس بن عمر. وذكر القولين أبو بكر الخطيب. اهـ.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تصوروا لهذه الآية الشريفة قربه وحبه على عظمته وعلوه فتذكروا لذيذ مخاطبته فيما قبل فاشتاقوا إليها وكان قد يسر لهم أمر الصوم كما على جميعهم وكيفًا على أهل الضرورة منهم كانوا كأنهم سألوه التيسير على أهل الرفاهية فيما حرم عليهم كما حرم على أهل الكتاب الوطء في شهر الصوم والأكل بعد النوم فقال تحقيقًا للإجابة والقرب: {أحل لكم} فأشعر ذلك بأنه كان حرامًا {ليلة} أي في جميع ليلة {الصيام الرفث} وهو ما يواجه به النساء في أمر النكاح، فإذا غير فلا رفث عند العلماء من أهل اللغة، ويدل عليه وصله بحرف الانتهاء بيانًا لتضمين الإفضاء أي مفضين {إلى نسائكم} بالجماع قولًا وفعلًا، وخرج بالإضافة نساء الغير. اهـ.

.مناسبة قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} لما قبله:

قال البقاعي:
ولما كان الرفث والوقاع متلازمين غالبًا قال مؤكدًا لإرادة حقيقة الرفث وبيان السبب في إحلاله: {هن} أي نساؤكم {لباس لكم} تلبسونهن، والمعنى: أبيح ذلك في حالة الملابسة أو صلاحيتها، وهو يفهم أنه لا يباح نهارًا- والله سبحانه وتعالى أعلم؛ ويجوز أن يكون تعليلًا لأن اللباس لا غنى عنه والصبر يضعف عنهن حال الملابسة والمخالطة.
ولما كان الصيام عامًّا للصنفين قال: {وأنتم لباس لهن} يلبسنكم، ثم علل ذلك بقوله مظهرًا لعظمة هذه الأمة عنده في إرادته الرفق بها {علم الله} أي المحيط علمه ورحمته وله الإحاطة الكاملة كما قدم من كونه قريبًا اللازم منه كونه رقيبًا {أنكم كنتم تختانون} أي تفعلون في الخيانة في ذلك من المبادرة إليه فعل الحامل نفسه عليه، والخيانة التفريط في الأمانة، والأمانة ما وضع ليحفظ، روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله عزّ وجل: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم}، روى البخاري والترمذي والنسائي عن البراء أيضًا رضي الله تعالى عنه قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها وإن صرمة بن قيس الأنصاري رضي الله تعالى عنه- فذكر حديثه في نومه قبل الأكل وأنه غشي عليه قبل انتصاف النهار فنزلت الآية.
ولما كان ضرر ذلك لا يتعداهم قال: {أنفسكم}، ثم سبب عنه قوله: {فتاب عليكم}.
قال الحرالي: ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم فعذرهم بعلمه فيهم ولم يؤاخذهم بكتابه عليهم، وفي التوبة رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ليجتمع اليمن في الطائفتين، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة من حيث شرع لها ما يوافق كيانها وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه، وكذلك حال الآمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لاجتنبها، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة، وإذا شاء الله تعالى أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله، فتفشوا فيها المخالفة لذلك، وهو من أشد الآصار التي كانت على الأمم فخفف عن هذه الأمة بإجراء شرعتها على ما يوافق خلقتها، فسارع سبحانه وتعالى لهم إلى حظ من هواهم، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربك يسارع إلى هواك» ليكون لهم حظ مما لنبيهم كليته، وكما قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه: «اللّهم أدر الحق معه حيث دار» كان صلى الله عليه وسلم يأمر الشجاع بالحرب ويكف الجبان عنه، حتى لا تظهر فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع لا يزعه وازع الرفق، وذلك قصد العلماء الربانيين الذين يجرون المجرب والمدرب على ما هو أليق بحاله وجبلة نفسه وأوفق لخلقه وخلقه، ففيه أعظم اللطف لهذه الأمة من ربها ومن نبيها ومن أئمة زمانها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى سمعت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا» لتجري الأحكام على ما يوافق الجبلات وطباع الأمم لكونه رسولًا إلى الناس كافة على اختلاف طباعهم، وما في السنة والفقه من ذلك فمن مقتبسات هذا الأصل العلي الذي أجرى الله سبحانه وتعالى الحكم فيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على وفق ما تستقر فيه أمانتهم وتندفع عنهم خيانتهم. اهـ.

.مناسبة قوله تعالى: {فالئن باشروهن} لما قبله:

قال البقاعي:
ولما كان ما أعلى إليه خطاب الصوم صوم الشهر على حكم وحدته الآتية على ليلة ونهاره إعلاء عن رتبة الكتب الأول التي هي أيام معدودات مفصول ما بين أيامها بلياليها ليجري النهار على حكم العبادة والليل على حكم الطبع والحاجة فكان في هذا الإعلاء إطعام الضعيف مما يطعمه الله ويسقيه لا لأنّه منه أخذ بطبع بل بأنه حكم عليه حكم بشرع حين جعل الشرعة على حكم طباعهم، كما قال في الساهي: «إنما أطعمه الله وسقاه»، وفيه إغناء القوي عن الطعام والشراب كما قال عليه الصلاة والسلام: «إني لست كهيئتكم»، فكان يواصل، وأذن في الوصال إلى السحر، فكما أطعموا وسقوا شرعة مع تمادي حكم الصوم فكذلك أنكحوا شرعة مع تمادي حكمه، فصار نكاحهم ائتمارًا بحكم الله لا إجابة طبع ولا غرض نفس فقال: {فالآن} أي حين أظهر لكم إظهار الشرعة على العلم فيكم وما جبلت عليه طباعكم فسدت عنكم أبواب المخالفة التي فتحت على غيركم {باشروهن} حكمًا، حتى استحب طائفة من العلماء النكاح للصائم ليلًا حيث صار طاعة، وهو من المباشرة وهي التقاء البشرتين عمدًا {وابتغوا} أي اطلبوا بجد ورغبة {ما كتب الله} أي الذي له القدرة الكاملة فلا يخرج شيء عن أمره {لكم} أي من الولد أو المحل الحل، وفيه إشعار بأن ما قضي من الولد في ليالي رمضان نائل بركة ذرئه على نكاح أمر به حتى كان بعض علماء الصحابة يفطر على النكاح. اهـ.